تراث قبائل أيت ويرة نواحي بني ملال يستغيث: إرثٌ ثقافي وطبيعي يُدمَّر… من المسؤول؟


يُعدّ نظام “أكدال Agdal” نموذجًا تقليديًا للحكامة الجماعية للأراضي، حيث يُدار وفق أعراف متوارثة تحدد طرق استغلال الموارد الطبيعية بما يضمن استدامتها للأجيال القادمة. وقد استطاعت مختلف المجتمعات ابتكارها للحفاظ على مواردها الطبيعية والاجتماعية. ويعكس التراث المغربي، بجانبيه المادي واللامادي، كهوية وحضارة تشكّلت عبر قرون في اطار التفاعل بين الإنسان وبيئته، ما جعل هذه الأنظمة جزءًا أساسيًا من استراتيجيات التدبير المستدام.

وإلا أن هذه الفضاءات التراثية تواجه اليوم تهديدات متزايدة نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى تراجع القوانين العرفية أمام أنماط استغلال حديثة قد تتنافى مع طبيعتها. ولكن، يظل الإطار القانوني المغربي والدولي داعمًا لحماية هذا الموروث، حيث تُشكّل التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية أدوات أساسية للحفاظ على مثل هذه النظم التقليدية التي تعكس في جوهرها علاقة متوازنة بين الإنسان والأرض.

وفي هذا السياق تعتبر قبائل أيت ويرة، باقليم بني ملال، جهة بني ملال خنيفرة، إحدى الاتحاديات الأمازيغية التي تبنّت نظام أكدال منذ قرون طويلة، حيث ارتبطت بهويتهم الثقافية والاجتماعية بشكل وثيق. ويمثل “أكدال”عند هذه القبائل أكثر من مجرد وسيلة لتدبير الموارد الطبيعية، فهو نظام اجتماعي يُعزز قيم التضامن والتعاون بين أفراد الجماعة، حيث يُتخذ قرار تحديد فترات استغلال الأراضي من خلال مجلس جماعي تقليدي يضم أعيان القبيلة Agraw n’Imgharen.

ويقوم هذا المجلس ⵉⵙⵇⵇⵉⵎ بتوزيع المسؤوليات بين السكان، حيث يتم تعيين حراس لمراقبة الالتزام بالقواعد الجماعية، مما يُشكل نمطًا من الإدارة الذاتية التي تضمن العدالة في توزيع الموارد. كما يُعتبر احترام قوانين أكدال معيارًا أساسيًا لتأكيد الانتماء إلى الجماعة، إذ إن خرق هذه القوانين قد يؤدي إلى عقوبات اجتماعية قد تصل إلى النبذ المؤقت من قبل المجتمع المحلي.

وإلى جانب دوره في إدارة الأراضي، يلعب أكدال دورًا محوريًا في البنية الثقافية لقبائل أيت ويرة، حيث تُقام احتفالات تقليدية تُرافق فتح وإغلاق الأراضي المخصصة للرعي أو الزراعة. تعد هذه الطقوس مناسبة لإعادة تأكيد القيم الجماعية والتذكير بأهمية احترام العادات المتوارثة.

وكما أن هذا النظام يساهم في ترسيخ ممارسات لغوية وأدبية، حيث يُتداول العديد من الأمثال والحكايات المرتبطة بأكدال، مما يجعله عنصرًا أساسيًا في نقل التراث الشفهي للأجيال الجديدة. كما أن الفضاءات المحمية بموجب أكدال تتحول إلى أماكن لقاء وتبادل ثقافي، حيث يتم تعزيز العلاقات الاجتماعية بين القبائل المجاورة، وهو ما يعكس الدور التوحيدي لهذا النظام داخل البنية القبلية.

ويتميز التراث المغربي بتنوعه، حيث يضم موروثًا ماديًا يشمل المعالم التاريخية، القصور، القصبات، المدن العتيقة، والمساجد، إلى جانب تراث لامادي يتمثل في العادات والتقاليد، الفنون، والأنظمة التدبيرية التقليدية. ومن بين أبرز الموروثات التي حافظت على استمراريتها في بعض المناطق نظام “أكدال”، الذي يُجسد نمطًا خاصًا من تدبير الأراضي في المغرب الأمازيغي.

ويتمثل هذا النظام في تخصيص أراضٍ معينة لمجموعة سكانية وفق قواعد صارمة، حيث تُحدد فترات السماح بالاستغلال تبعًا لقرارات جماعية تراعي استدامة الموارد. ورغم أن هذا النظام ظل قائمًا في بعض المناطق، مثل جبال الأطلس الكبير والمتوسط، إلا أنه بدأ يفقد دوره التقليدي تحت تأثير السياسات التنموية الحديثة، التي لم تأخذ بعين الاعتبار خصوصياته الثقافية والاجتماعية.

وانطلاقًا من وعي المغرب بأهمية الحفاظ على تراثه الوطني، عملت الدولة على إصدار عدة قوانين لحماية التراث المادي واللامادي. من بين أبرز هذه القوانين، القانون 22-80 المتعلق بالمحافظة على المباني التاريخية والمناظر والكتابات والنقوش والتحف الفنية والعاديات، الذي يضع إطارًا قانونيًا لحماية المعالم التاريخية، لكنه يظل قاصرًا في شموليته لبعض الأشكال التراثية اللامادية مثل النظم التدبيرية التقليدية.

وكما جاء القانون 19-05 المعدل للقانون 22-80 ليُدخل تعديلات مهمة على مسألة تصنيف الممتلكات الثقافية، حيث منح صلاحيات أوسع للإدارات المعنية لإدراج مواقع جديدة ضمن قائمة التراث الوطني. أما القانون 31-05 المتعلق بحماية وتثمين التراث الثقافي، فقد وسّع نطاق الحماية ليشمل جوانب التراث اللامادي.

وما قد يفتح المجال أمام الاعتراف بمؤسسات تقليدية مثل أكدال ضمن التراث الثقافي الوطني والدولي. ورغم هذا التقدم التشريعي، لا تزال هناك فجوة بين النصوص والتطبيق، حيث تواجه العديد من المواقع التراثية غياب آليات المراقبة الفعالة، كما أن إدماج النظم التقليدية ضمن الاستراتيجيات التنموية لا يزال محدودًا.

وإلى جانب الإطار القانوني الوطني، يندرج التراث المغربي ضمن التزامات دولية تهدف إلى صونه وحمايته. ومن أبرز هذه الاتفاقيات، اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي لسنة 1972، التي صادق عليها المغرب سنة 1975، وتُلزم الدول باتخاذ التدابير اللازمة لحماية مواقعها ذات الأهمية الثقافية والبيئية.

وكما تُعدّ اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي غير المادي لسنة 2003 من الأدوات الأساسية في هذا المجال، حيث تركز على صون العادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية ذات البعد التراثي، وهو ما ينطبق على نظام أكدال باعتباره نموذجًا لإدارة الموارد بطريقة تقليدية مستدامة.

ويضاف إلى ذلك اتفاقية التنوع البيولوجي لسنة 1992، التي تحث على احترام النظم الإيكولوجية التقليدية، لا سيما تلك التي أثبتت فعاليتها على مرّ الزمن في التكيف مع البيئة المحلية، إلى جانب إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية لسنة 2007، الذي يؤكد على ضرورة الاعتراف بالممارسات الثقافية للشعوب الأصلية، بما في ذلك أنظمة التدبير التقليدية للأراضي مثل أكدال. ورغم أن هذه الاتفاقيات تمنح المغرب إطارًا قانونيًا قويًا لحماية مواقعه التراثية، إلا أن تفعيلها يظل رهينًا بإرادة سياسية واضحة وتدابير مؤسساتية ناجعة.

واضافة الى معاناة هذه الفضاءات التقليدية من محاولات إضعاف دورها، سواء بسبب التغيرات الاقتصادية التي أدت إلى تحويلها إلى مناطق استثمارية، أو بسبب تراجع القوانين العرفية أمام التشريعات الحديثة التي لا تدمجها في سياساتها التنموية. هذا الوضع يتطلب تبني مجموعة من التدابير للحفاظ على هذه النظم، ومنها إدراج أكدال ضمن قائمة التراث الوطني المصنف وفقًا للقوانين المغربية التي تسمح بذلك، مما يضمن حمايته من أي تغييرات غير مدروسة.

كما أن تفعيل النصوص القانونية المتعلقة بالتراث اللامادي يُعدّ ضروريًا، من خلال إدراج الممارسات التقليدية في المخططات التنموية لضمان استمراريتها في ظل التحولات الاقتصادية. إلى جانب ذلك، ينبغي تشجيع البحث العلمي حول أكدال، من خلال دعم الدراسات الأكاديمية التي تُبرز أهميته التاريخية والبيئية والاجتماعية، مما يساعد على إدماجه في السياسات العمومية. وحيث إن السكان الأصليين يشكلون الحماة الحقيقيين لهذا التراث، مما يضمن استدامته في ظل التحديات التي تواجهه اليوم.

وفي ظل التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها مناطق قبائل أيت ويرة، بدأت تظهر محاولات لتخريب هذا الموروث الثقافي العريق، حيث تسعى بعض الجهات إلى تحويل هذه الأراضي التي تشكل جزءًا من نظام أكدال إلى مشاريع زراعية عشوائية رغم ان المنطقة لم تكن بحاجة وليست بحاجة الى غرس المزيد من الاشجار، خاصة ان كانت مختلفة عن النوع الغطاء النباتي الموجود في المنطقة “البلوط Tassaft” واستبداله بانواع اخرى مثل “تايدة” Pinus Taeda” رغم انها من النباتات الغازية، ما قد يؤثر سلبًا على التنوع البيولوجي، او التسبب في اشتعال النار كلما ارتفعت درجة الحرارة، وهذا يمكن يسبب دمارا للغطاء النباتي الكثيف المتواجد في المنطقة.

وفي حين ان كل هذه المحاولات تتنافى مع الخصوصيات البيئية والاجتماعية التي يتميز بها هذا النظام التقليدي  الوراوي العريق، مما يهدد استدامة الموارد الطبيعية ويقوض دور أكدال كآلية اجتماعية ثقافية هوياتية تنظم العلاقة بين الإنسان والطبيعة. إضافة إلى ذلك، تتجاهل بعض السياسات المحلية أهمية الحفاظ على هذا التراث الثقافي اللامادي، رغم كل القوانين والاتفاقيات التي تنص على الحفاظ عليه.

ومما سيؤدي ايضا إلى إضعاف الأنظمة التقليدية التي حافظت على التنوع البيولوجي والعدالة الاجتماعية والاستقرار لعقود طويلة. هذا الوضع يسلط الضوء على الحاجة الملحة لإعادة النظر في السياسات التنموية التي تتجاهل التراث الثقافي في سبيل التوسع الغابوي على عاتق مجالات اخرى قد تكون اكثر اهمية في مثل هذه الحالة.

ولذلك، فإنه من الضروري أن تتدخل كل الجهات المسؤولة بشكل فوري لحماية هذا الموروث الفريد. كما يجب على مختلف الجهات المعنية اتخاذ تدابير قانونية وإدارية استعجالية لحماية أراضي أكدال “قبائل ايت ويرة” من التغيرات التي قد تؤدي إلى تدميرها، وضمان أن أي مشاريع تنموية في المنطقة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية النظام التقليدي للقبائل.

وينبغي ايضا أن تكون هناك رقابة فعّالة على مشاريع الاستثمار والمبادرات الاقتصادية لضمان توافقها مع مبدأ الاستدامة البيئية والاجتماعية، كتوسيع الشبكة الطرقية، وفك مشكل العزلة عن طريق ربط هذه المناطق بمختلف تجهيزات البنية التحية الضرورية( الانارة والماء وغيرها من المشاكل الانية…)، فبهذه المشارع ستتطور المنطقة من اجل جعلها وجهة سياحية متميزة.

وحسب معاينة جريدة Le61.ma، لهذا المكان، فقد أثار المشروع موجة من الاستياء بين سكان المنطقة، الذين عبروا عن مخاوفهم من التداعيات السلبية التي قد تترتب عليه، سواء من حيث المشاكل التي قد تنجم عنه أو من حيث تهديده للهوية الثقافية والتراثية المرتبطة بهذا الموقع. وتخشى الساكنة أن يؤدي تنفيذ المشروع إلى طمس معالم هذا الفضاء التراثي، الذي يشكل جزءًا أساسياً من المخيال الجماعي للقبائل المحلية.

وفي نفس السياق اشارت الساكنة أيضًا إلى أن الحفر التي أُعدّت لغرس هذه الأشجار “تايدة” تفتقر إلى العمق الكافي وفقًا للمعايير الزراعية، حيث تحتاجالأشجار إلى مساحة وعمق مناسبين لتمكين جذورها من الامتداد والتثبيت في التربة، وهو ما يبدو غير متحقق في هذه الحالة.

هذا وكما لوحظ غياب اللوحات الإشهارية ايضا، وهو ما يعد خرقًا للقوانين المغربية المتعلقة بالمشاريع العمومية، حيث تُلزم هذه اللوحات بتوفير معلومات أساسية مثل الجهة المسؤولة عن المشروع، والمدة المحددة لتنفيذه، ونوع الأشجار المزمع غرسها في مثل هذه المشاريع.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button
error: المحتوى محمي !!
Close

تم الكشف عن مانع للإعلانات

يرجى إيقاف مانع الإعلانات للاستمرار في التصفح

نلاحظ أنك تستخدم مانعاً للإعلانات. يعتمد موقعنا على عائدات الإعلانات لتقديم محتوى مجاني عالي الجودة. نشكرك على إيقاف مانع الإعلانات وإعادة تحميل الصفحة للوصول إلى المحتوى.

نشكركم على دعمكم!