أنوزلا يكتب: قراءة متأنية في الانتخابات المغربية
-علي أنوزلا-
ما زالت نتائج الانتخابات المغربية تطرح أسئلة كثيرة على الباحثين والمهتمين بالشأن المغربي لتفكيك ألغازها، واستيعاب مفاجآتها الفارقة، والاستفادة من دروسها إن كان لها من دروس يُستفاد منها، فقد تعدّدت التحاليل وتضاربت التفسيرات التي تحاول تقريب ما حصل للقارئ المغربي، ومن خلاله للقارئ العربي، والأجنبي بصفة عامة، وطغت إلى حد كبير النظرة الاختزالية، أو قراءة العناوين الكبرى لهذه النتائج على بعض الأطروحات التي حاولت أن تلخص المشهد في هزيمة الإسلاميين في آخر معقل لهم في السلطة في المنطقة العربية منذ ثورات الربيع العربي التي حملتهم إلى مراكز القرار في أكثر من دولة عربية.
وذهبت قراءات متسرّعة إلى تفسير ما حصل في المغرب بأنه تصويتٌ عقابيٌّ ضد الحزب الإسلامي الذي تولى قيادة الحكومة ولايتين متتاليتين زهاء عقد. وفي هذا السياق، استوفت الانتخابات المغربية غايتها بالنسبة لأنصار الثورات المضادّة في المنطقة العربية، بما أنها أعطتهم العنوان الذي يسهل تسويقه وترويجه في وسائل الإعلام الغربية. وفي الوقت نفسه، أرسلت رسائل إلى الشعوب العربية التوّاقة إلى التغيير لنفض يدها من التجارب التي كان مآلها الفشل. وهنا يمكن فعلا الحديث عن “استثناء مغربي”، بما أن إبعاد الإسلاميين عن السلطة في المغرب كان قرارا صادرا عن صناديق الاقتراع نفسها التي خرجوا منها منذ 2011 بدفع قوي من رياح الربيع العربي، لتبوّء مراكز السلطة والقرار في بلدانهم، لكن السؤال المطروح يبقى بشأن مدى مصداقية نتائج صناديق الاقتراع في بلدٍ ما زالت تستعمل فيه كثير من الوسائل التقليدية غير الديمقراطية، والأساليب غير الشفافة، والممارسات غير النزيهة، لتوجيه الناخبين والتأثير على قرارهم.
وفي انتظار أن تُفرج وزارة الداخلية المغربية، التي أشرفت على العملة الانتخابية، عن الأرقام التفصيلية الخاصة باقتراع يوم 8 شتنبر، أقترح، في هذه المرحلة الأولية، لفهم ما جرى، قراءتين متأنيتين لسياق الانتخابات وظروفها، تقنية وأخرى سياسية. وإذا بدأنا بالقراءة التقنية، فهي تفيد في فهم ميكانزمات العملية الانتخابية في المغرب، على اعتبار أنها إحدى آليات التحكّم في العملية برمتها، وتوجيه نتائجها حسب تقديرات الجهة التي تدير دواليبها من الخلف، ففي المغرب معروفٌ أن عملية التحكّم في نتائج الانتخابات تكون قبلية من خلال القوانين المنظمة لها التي تخضع كل مرة للتعديل، بما يناسب المرحلة ويخدم مصالح التوجّه الذي تسعى الدولة إلى دفع الناخبين نحوه، كما أن عملية التقطيع الجغرافي للدوائر الانتخابية الذي تقوم به وزارة الداخلية، وهي وزارة سيادة، يخضع للتوجهات نفسها التي تساير المعطيات المتوفرة لديها، بما يخدم النتائج التي تريد الوصول إليها. إضافة إلى ذلك، يكون تحديد الكتلة الناخبة، وهي مهمةٌ تقوم بها وزارة الداخلية أيضا، عاملا حاسما في وضع سيناريوهات النتائج المتوقعة مسبقا.
ويكفي القول هنا إن اللوائح الانتخابية في المغرب وضعت منذ عدة عقود، يتم تجديدها وتنقيتها كل سنة، ومع اقتراب كل استحقاق انتخابي، لكن الوزارة الوصية رفضت دائما كل المطالب بوضع لوائح جديدة لتجنّب كل الانتقادات التي تتجدّد عشية كل استحقاق انتخابي، بخصوص قدم معطيات اللوائح الانتخابية. وأخيرا، وليس آخرا، ظل الإشراف المباشر لوزارة الداخلية على تنظيم الانتخابات موضع شك وريبة في حيادها، لذلك كانت الأحزاب الديمقراطية في المغرب تطالب بإسناد هذه العملة إلى لجنة مستقلة، لكن هذا الطلب كان دائما يواجَه بالرفض، ولأسباب غير مقنعة.
وإلى جانب هذه المحدّدات القبلية التي تكاد تشترك فيها كل الاستحقاقات التي شهدها المغرب في الماضي، تميّزت انتخابات الأسبوع الماضي بمعطياتٍ رفعت نسبة الشك في مصداقية نتائجها. أولاها الاستعمال المفرط للمال لتوجيه الناخبين، سواء كان نقدا أو عينا. وفي هذا، تكاد تشترك معظم الأحزاب السياسية المشاركة فيها، مع تفاوت في حجم المال ورمزية الإغراءات العينية التي استعملت لاستمالة إرادة الناخبين، وهذا ليس جديدا على الممارسة الانتخابية في المغرب. تمثل المعطى الثاني في الحياد السلبي للإدارة أمام الخرق متعدّد الأشكال للعملية الانتخابية في بعض مكاتب التصويت، وأحيانا التدخل الإرادي غير المباشر للإدارة في حالاتٍ أخرى، لتوجيه الناخبين، أو تكييف النتائج المتوقعة حسب التوجه العام الذي تتحكم فيه الإدارة المركزية للعملية الانتخابية. المعطى الثالث هو العامل النفسي لتهيئة الرأي العام لتقبل النتائج التي يسعى التوجه العام لإدارة العملية فرضه واقعا، قبل أن يكتسب تزكيته من النتائج التي تمنحه شرعيته الديمقراطية. وفي هذا السياق، تدخل كل حملات التأثير والتوجيه الإعلامي التي استمرت منذ عدة سنوات لتهيئة الرأي العام لتقبل النتيجة النهائية، من دون أي حس نقدي لها، أو مجرّد شك في إمكانية عدم صدقها.
تشكّل مجموع المحدّدات والمعطيات المشار إليها الجانب التقني الذي يتحكّم في سير العملية الانتخابية وتوجيهها. أما الجانب السياسي فهو متعدّد الجوانب، بعضه معلن وبعضه غير مفصح عنه، لكن الخطاب السياسي والممارسة السياسية للدولة الرسمية تعطينا مؤشّرات قوية تساعد على قراءته وفهم غاياته ومقاصده. وبعيدا عن التعميم، تساعدنا القراءة السياسية لنتائج الانتخابات على فهم أوسع لما جرى فيها. العنوان الكبير لهذه الانتخابات السقوط المدوّي للإسلاميين فيها، وهو يختزل التوجه العام الذي يحكم الخلفية السياسية لهذه العملية برمتها، فليس خافيا في المغرب أن وجود جناحٍ معتدلٍ من الإسلاميين في إدارة الشأن العام إنما فرضته سياقات الربيع العربي. وطوال السنوات العشر الماضية، عمل تيار الثورات المضادّة التي وجدت لها مناصرين داخل الدولة المغربية، على تحجيم دور الإسلاميين في الحكومة والمجالس المنتخبة داخل المدن والقرى. وساهم الاستنزاف البطيء للسلطة، وتراكم الأخطاء التي ارتكبتها الأطر (الكوادر) الإسلامية التي تنقصها الكفاءة والتجربة، والتهافت على المصالح والمغانم التي يوفرها القرب من السلطة، والتقديرات السياسية لقيادة الإسلاميين الذين كانوا يؤمنون بأطروحة الإصلاح من الداخل، من خلال كسب ثقة الحاكم مقابل التنازلات التدريجية التي أفقدتهم ثقة المحكوم، وانتصار الحسّ البراغماتي على المرجعية القيمية للإسلاميين، كلها عوامل تضافرت لتسريع سقوطهم في الانتخابات أخيرا.
أما الدفع بأن الإسلاميين في المغرب نالوا تصويتا عقابيا أبعد ما يكون عن فهم الواقع المغربي وتعقيداته. وأكثر من ذلك، التصويت العقابي هو ثقافة ديمقراطية، لا نجدها سوى في الديمقراطيات العريقة التي تدرّبت شعوبها على محاسبة حكّامها. والحال أن المغرب ما زال يتعثر بالخطى في بحثه عن تحقيق انتقاله الديمقراطي الذي يؤجَّل من انتقال إلى آخر. ولو كان الأمر يتعلق بتصويت عقابي، لنالت كل الأحزاب المشاركة في الحكومات السابقة حصّتها منه، وفي المقدمة الحزب المتصدّر نتائج الانتخابات، والذي شارك في جميع الحكومات التي عرفها المغرب، منذ أسّسه أحد أصهار العائلة الملكية نهاية سبعينات القرن الماضي. لذلك، التعبير الذي يناسب الحالة المغربية هو التصويت الانتقامي من إسلاميي السلطة في المغرب الذين راكموا ضدّهم حنق الناس وغضبهم وخيبة أملهم من وعود الإسلاميين التي لم يفوا بها، وقراراتهم اللاشعبية التي فرضوها تقرّبا وتزلّفا من الحاكم، وابتعادهم عن قيمهم التي يرفعونها في خطاباتهم وشعاراتهم، ويأتون نقيضها في واقعهم وممارساتهم اليومية.
على الرغم من كل ما سبق، يبقى أن التوجه الرسمي للدولة إلى تحجيم حضور الإسلاميين لاعبا أساسيا داخل اللعبة السياسية المغربية، هو المحدّد الأساسي لنتائج الانتخابات الأخيرة، وربما أدّى الإفراط في فرض هذا التوجه إلى المخرجات غير المفهومة لنتائجها التي قلصت حضور الإسلاميين، بصورةٍ لم تكن متوقعة حتى عند مهندسي هذا التوجه، ونفخت في نتائج منافسيهم بصورةٍ غير طبيعية لا تتلاءم والحجم الطبيعي لكائناتٍ انتخابيةٍ أغلبها بدون قاعدة انتخابية أو حاضنة شعبية.
ليس خافيا أن نتائج الانتخابات المغربية أدخلت البهجة مؤقتا على صدور أنصار الثورات المضادة، ليس في المغرب فحسب، وإنما في المنطقة العربية، إلا أنها قد تكون بداية لإعادة التفكير عند القوى الديمقراطية في طرق التغيير الممكنة، لأن الإنسان لا ينغمس في النهر نفسه مرّتين، ولأن التغيير هو الثابت الوحيد، وهو صيرورة حتمية، وليس محطّات انتخابية تحسمها نتائج صناديق تنقصها الشفافية، على الرغم من أنها من صُنعت من زجاج شفّاف.