النتائج الحقيقية للبكالوريا بين وهم التفوق الرقمي ومنطق الكفاءة

دراسة تحليلية مقارنة للأنظمة التربوية
بقلم د. امحمد أقبلي.
رئيس جماعة أجلموس إقليم خنيفرة.
مع كل إعلان رسمي عن نتائج امتحانات البكالوريا، يحتدم النقاش العمومي في المغرب كما في سائر الدول العربية حول دلالات التفوق، ومفهوم النجاح، وجدوى المعدلات المرتفعة. تتصدر الصحف والمواقع عناوين تُمجّد أصحاب 19 و20 على 20، وتُعيد نشر معطيات حول تفوق الفتيات على الذكور، وهيمنة المسالك العلمية، ويُعاد تدوير سؤال التفوق الرقمي كمعيار أوحد لقيمة المتعلم. غير أن هذا التركيز الحصري على التفوق الرقمي يخفي خلفه واقعًا أكثر تعقيدًا: واقعًا يعاني من فقر في الرؤية التربوية، وضغط في التقييمات، وافتقار إلى عدالة تعليمية شاملة.
لقد أصبح معدل البكالوريا – رغم أهميته الشكلية – معيارًا مفرطًا في استخدامه لتحديد قيمة المتعلم، مساره، ومكانته في المجتمع. هذا المعدل الذي يُفترض فيه أن يكون انعكاسًا لمسار طويل من التعلم، يتحول إلى نقطة تصنيف تعسفي بين “ناجح” و”فاشل”، دون مراعاة للظروف الاجتماعية أو الاختلافات الفردية في الذكاء، الميول، والبيئة. وهكذا يتم اختزال اثني عشر عامًا من التكوين في رقم قد لا يعكس بالضرورة لا الفهم ولا الجاهزية للمرحلة الجامعية أو المهنية[^1].
لا يخفى على المتتبعين أن منظومة البكالوريا في المغرب، شأنها شأن كثير من الأنظمة التربوية المماثلة، تقوم على امتحان موحد يقوم بتقييم القدرات المعرفية للمتعلمين من خلال اختبارات كتابية تقيس استرجاع المعلومات بالدرجة الأولى[^2]. ورغم الجهود المتفرقة لتحديث هذه المقاربة، فإنها ما تزال تكرس تصورًا أحاديًا للتفوق، يتجاهل الكفاءات غير الأكاديمية، كالقدرة على التواصل، الإبداع، الذكاء العاطفي، والروح القيادية. وهو ما يدفع عددًا من التلاميذ إلى اللجوء إلى الدروس الخصوصية، أو إلى تقنيات الحفظ الميكانيكي، في غياب ثقافة حقيقية للتفكير النقدي والتعلم الذاتي.
وما يزيد من تعقيد هذا الوضع أن الامتحانات لا تراعي الفوارق المجالية والاجتماعية بين المتعلمين، إذ تضع أبناء القرى والمناطق المهمشة في نفس سياق التقييم مع أقرانهم في المدارس الخاصة الكبرى، دون تمكينهم من الأدوات أو الحظوظ المتكافئة[^3]. هذا الإقصاء الرمزي لا يُحدث فقط فجوة تعليمية، بل يعمق الإحباط الجماعي، ويفرض نمطًا من التصنيف الطبقي تحت غطاء “الاستحقاق”، في حين أن الاستحقاق الحقيقي هو الذي يُراعي السياق ويدمج الكفاءة بالعدالة.
ولعل أبرز مظاهر هذا الخلل، يتجلى في المفارقة التي نعيشها عندما نلاحظ كيف يندمج التلاميذ المغاربة بسلاسة – بل ويتفوقون أحيانًا – في المدارس والأنظمة التعليمية الأجنبية، خاصة في كندا، فرنسا، وبلجيكا[^4]. هؤلاء التلاميذ الذين قد لا يكونون قد حصلوا على معدلات باهرة في امتحان البكالوريا، يبرهنون في الخارج عن قدرات عالية في التفاعل، التحليل، والمبادرة، ما يدل بوضوح على أن الإشكال ليس في المتعلم المغربي، بل في أدوات التقييم المعتمدة داخل المنظومة الوطنية. وهذا يعيد طرح سؤال كبير: إلى أي مدى يمكن اعتبار معدل البكالوريا مؤشرًا صادقًا على الكفاءة الحقيقية؟
في المقابل، تبرز عدد من التجارب التربوية الدولية التي نجحت في تطوير نماذج تقييم متوازنة، تراعي خصوصيات المتعلمين وتدمج البُعد الإنساني والمعرفي معًا. ففي فنلندا، على سبيل المثال، يتم الاستغناء عن الامتحانات الموحدة قبل نهاية المرحلة الثانوية، ويُعتمد التقييم المستمر المبني على المشاريع والملاحظة الصفية[^5]. وفي كيبك بكندا، يُستعاض عن المعدل العددي بملف المتعلم التكويني، الذي يتضمن إنتاجاته المختلفة خلال السنة الدراسية، بالإضافة إلى تقويم المهارات السلوكية والاجتماعية[^6]. أما في ألمانيا، فالتنوع في المسارات التعليمية (أكاديمية، تقنية، مهنية) يتيح لكل متعلم أن يتفوق وفق ميولاته ومؤهلاته، دون أن يُجبر على التماهي مع نموذج جامد للتفوق[^7].
إن النموذج المغربي، في ضوء هذه المقارنات، يبدو في حاجة ملحة إلى إصلاح عميق لا يقتصر على تغيير شكل الامتحانات، بل يتعداه إلى إعادة تعريف النجاح ذاته. فالتفوق لا يجب أن يكون رقمًا فحسب، بل قدرة على الفعل، على الإبداع، وعلى الإسهام الفعال في المجتمع. المطلوب هو منظومة تقييم متعددة الأبعاد، تدمج الكفاءة المعرفية بالمهارات الناعمة، وتُفسح المجال أمام الذكاءات المتعددة لتُعبّر عن ذاتها بوسائل متنوعة.
إن إصلاح منظومة البكالوريا هو جزء لا يتجزأ من إصلاح المدرسة المغربية. ولا يمكن أن نأمل في تربية جيل فاعل ومستنير، ما دامت أدوات تقييمنا تُقزّم المتعلم وتُقصيه من المشاركة في تحديد مستقبله. إن المدرسة ليست معملًا لتصنيع الأرقام، بل ورشة لبناء المواطن. لذلك، فإن ربط البكالوريا بمنطق الكفاءة لا بالنتائج الظرفية، هو ما سيعيد للتعليم معناه، وللتفوق حقيقته، وللمتعلمين كرامتهم التربوية.
—
- [^1]: Conseil supérieur de l’éducation, Maroc (2018). Rapport national sur l’évaluation du système éducatif. [^2]: وزارة التربية الوطنية – المغرب. الرؤية الاستراتيجية 2030 لإصلاح التعليم. [^3]: UNESCO (2021). Reimagining our futures together: A new social contract for education. [^4]: Rapport sur l’intégration des élèves marocains dans les systèmes éducatifs étrangers, Ministère des Affaires étrangères (2020). [^5]: Sahlberg, P. (2015). Finnish Lessons 2.0: What Can the World Learn from Educational Change in Finland? [^6]: Ministère de l’Éducation du Québec. (2022). Cadre de référence de l’évaluation des apprentissages. [^7]: OECD (2019). Future of Education and Skills 2030.