امحمد أقبلي يكتب .. حين يكتفي القاضي الدستوري بعلّة واحدة… هل يسقط النص كله أم تُنجّي منه قابلية الفصل؟


عبارة «ومن غير حاجة لفحص…» (Sans qu’il soit besoin d’examiner…) في ضوء الفقه الدستوري المغربي والمقارن: قراءة تحليلية وتأصيلية.

حين يكتفي القاضي الدستوري بعلّة واحدة… هل يسقط النص كله أم تُنجّي منه قابلية الفصل؟

د.امحمد أقبلي

ملخص:

تثير عبارة المحكمة الدستورية المغربية «ومن غير حاجة لفحص…» (Sans qu’il soit besoin d’examiner…)، كما وردت في قرارها بشأن مشروع قانون المسطرة المدنية، نقاشًا فقهيًا حول حدود أثر عدم الدستورية: هل يمتد إلى القانون برمته أم يقتصر على المقتضيات المصرح بعدم دستوريتها؟ المقال يحلل العبارة في ضوء الإطار الدستوري المغربي (المادتان 132 و133 من الدستور، والمادة 27 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية)، ويقارنها بالاجتهاد الفرنسي ومبدأ économie des moyens. كما يوثق لاجتهادات مغربية سابقة استعملت الصيغة ذاتها، مبرزًا أن الأثر العملي يظل رهينًا بتقرير قابلية الفصل (séparabilité) أو عدمها (indivisibilité). ويخلص إلى أن غياب تقرير القابلية للفصل يمنع إصدار القانون قبل الملاءمة، مع التوصية باللجوء إلى الإحالة الثانية ضمانًا للأمن الدستوري.

أولاً: تمهيد عام

ورد في مستهل منطوق أحد قرارات المحكمة الدستورية (Cour constitutionnelle)، المتعلق بمراقبة مطابقة مشروع قانون المسطرة المدنية (Code de procédure civile) للدستور، عبارة: «ومن غير حاجة لفحص دستورية باقي مواد ومقتضيات القانون المُحال».
تثير هذه الصياغة إشكالاً نظريًا وعمليًا دقيقًا: هل يؤسس هذا الاستهلال لانبساط أثر عدم الدستورية (inconstitutionnalité) على النص القانوني برمته (loi dans son intégralité)، أم يقتصر أثره على المقتضيات المصرح بعدم دستوريتها (dispositions déclarées inconstitutionnelles)؟

للإجابة، يستلزم الأمر ضبط الإطار الدستوري الوطني، واستجلاء دلالة العبارة في ضوء الفقه المقارن والاجتهاد القضائي الدستوري، مع استحضار الأثر المترتب على قابلية أو عدم قابلية الفصل (séparabilité/indivisibilité) بين المقتضيات.

ثانياً: الإطار الدستوري المغربي والقانون التنظيمي للمحكمة الدستورية

1. تمييز رقابتي المطابقة

ينص الدستور المغربي لسنة 2011 على صورتين للرقابة الدستورية:

الرقابة السابقة على الإصدار (contrôle a priori) المنصوص عليها في المادة 132: إذا قضت المحكمة بعدم دستورية مقتضى، يمتنع إصداره أو تنفيذه (promulgation/exécution).

الرقابة البعدية بناء على الدفع بعدم الدستورية (exception d’inconstitutionnalité) وفق المادة 133: يترتب على التصريح بعدم الدستورية إلغاء المقتضى من تاريخ تحدده المحكمة (effet dans le temps).

2. أثر القرارات ومبدأ القابلية للفصل

وفق المادة 27 من القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية[1]، الأصل أن نشر قرار يقضي بعدم دستورية مقتضيات قانونية يحول دون إصدار القانون بأكمله (empêche la promulgation de la loi dans son ensemble)، إلا إذا قررت المحكمة أن المقتضيات غير الدستورية قابلة للفصل عن باقي النص (séparabilité). في هذه الحالة، يمكن إصدار القانون باستبعاد تلك المقتضيات فقط.

3. الحجية المطلقة

قرارات المحكمة الدستورية تتمتع بـ الحجية المطلقة (autorité absolue de la chose jugée)، وهي ملزمة لجميع السلطات ولا تقبل أي طعن[2].

ثالثاً: تحليل دلالة عبارة «ومن غير حاجة لفحص…»

1. الاقتصاد في الوسائل كنهج قضائي

تعكس العبارة تقنية قضائية راسخة في الفقه الدستوري المقارن تُعرف بـ اقتصاد الوسائل (économie des moyens)، ومؤداها أن المحكمة، متى كان سبب واحد كافيًا للحسم في المطابقة أو عدمها، تُغني عن فحص باقي الوسائل أو المقتضيات[3].

في الاجتهاد الدستوري الفرنسي، يستخدم المجلس الدستوري (Conseil constitutionnel) الصيغة التالية: «Sans qu’il soit besoin d’examiner les autres moyens»، وهي صيغة دالة على الاكتفاء بعلّة واحدة حاسمة، دون أن يعني ذلك تعميم الأثر على أجزاء النص غير المفحوصة[4].

2. التمييز بين الصياغة والأثر

الاقتصار على فحص مقتضيات معينة لا يستتبع، من حيث المبدأ، سقوط باقي النصوص التي لم يُصرّح بعدم دستوريتها، إلا إذا كانت المحكمة قد قررت عدم القابلية للفصل (indivisibilité)، حيث يمتد أثر عدم الدستورية إلى النص بأكمله بحكم الارتباط العضوي أو الوظيفي بين أجزائه.

رابعاً: الأثر العملي لعبارة المحكمة في ضوء المادة 27

1. حالة تقرير القابلية للفصل

إذا قررت المحكمة أن المقتضيات غير الدستورية قابلة للفصل (séparables), يمكن إصدار القانون باستبعادها، مع إلزام المشرع بإعادة تنظيم الفراغ التشريعي الناتج.

2. حالة عدم تقرير القابلية للفصل

إذا لم تُقرّر المحكمة القابلية للفصل، فإن نشر قرار عدم الدستورية يشكل مانعًا دستوريًا من إصدار القانون برمته، ويُعاد إلى السلطة التشريعية قصد الملاءمة (mise en conformité).

3. الإحالة الثانية

في القوانين العادية (lois ordinaires)، لا تُلزم النصوص الدستورية بالإحالة الثانية بعد التعديل، بخلاف القوانين التنظيمية (lois organiques)، لكن الإحالة الاختيارية تبقى مستحسنة لتأمين الحصانة الدستورية للنص المعدل.

خامساً: ملحق الاجتهادات المغربية ذات الصلة

1. القرار رقم 18/70 (6 شتنبر 2018)

النص: القانون التنظيمي 27.11 المتعلق بمجلس النواب.

الصيغة: «ومن غير حاجة لفحص باقي المقتضيات المثارة…».

النتيجة: عدم القابلية للفصل (indivisibilité)، فسقطت المادة المعنية بالكامل.

2. القرار رقم 21/130 (29 دجنبر 2021)

النص: النظام الداخلي لمجلس النواب.

الصيغة: «…ومن غير حاجة لفحص باقي المواد…».

النتيجة: قابلية الفصل (séparabilité)، واستمرار باقي النصوص.

3. القرار رقم 23/34 (18 أبريل 2023)

النص: مشروع قانون تنظيمي 04.22 بتغيير القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية.

الصيغة: «…ومن غير حاجة للبحث في باقي أوجه الطعن…».

النتيجة: اقتصار الأثر على المواد المخالفة فقط.

4. القرار رقم 25/87 (2025) – مشروع قانون المسطرة المدنية

النص: مشروع قانون 23.02 للمسطرة المدنية.

الصيغة: «ومن غير حاجة لفحص دستورية باقي مواد ومقتضيات القانون المحال…».

الملاحظة: لم تُصرّح المحكمة بالقابلية أو عدم القابلية للفصل، مما فتح نقاشًا حول الأثر على إصدار القانون.

سادساً: المقارنة مع القضاء الدستوري الفرنسي

يُطبّق المجلس الدستوري الفرنسي مبدأ économie des moyens على نطاق واسع، ويرتّب على عدم القابلية للفصل سقوط النص بأكمله (abrogation totale par indivisibilité). هذا المنهج يتبناه القضاء الدستوري المغربي مع خصوصية مرتبطة بصياغة المادة 27 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية.

سابعاً: الخلاصة والاستنتاجات

عبارة «ومن غير حاجة لفحص…» هي تعبير عن منهج économie des moyens، ولا تشكل قرينة على تعميم عدم الدستورية.

الأثر العملي متوقف على تحديد المحكمة لقابلية الفصل (séparabilité) أو عدمها (indivisibilité).

في غياب تقرير القابلية للفصل، يمتنع إصدار القانون قبل تعديله وملاءمته للدستور.

يُستحسن، من منظور الضمانات الدستورية، اللجوء إلى الإحالة الثانية حتى في حالة القوانين العادية.

الهوامش

1. المادة 27 من القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية.

2. المادة 134 من دستور المملكة المغربية (2011).

3. Favoreu, L., Philip, L., Les grandes décisions du Conseil constitutionnel, Dalloz, Paris.

4. قرارات المجلس الدستوري الفرنسي أرقام: 2010-4/17 QPC، و2011-135 QPC، و2012-242 QPC.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button
error: المحتوى محمي !!
Close

تم الكشف عن مانع للإعلانات

يرجى إيقاف مانع الإعلانات للاستمرار في التصفح

نلاحظ أنك تستخدم مانعاً للإعلانات. يعتمد موقعنا على عائدات الإعلانات لتقديم محتوى مجاني عالي الجودة. نشكرك على إيقاف مانع الإعلانات وإعادة تحميل الصفحة للوصول إلى المحتوى.

نشكركم على دعمكم!