بقلم: د. امحمد أقبلي .. الملكية المغربية في الزمن المتحول: من رمزية البيعة إلى فعالية الدولة


تتجاوز ذكرى عيد العرش في المغرب حدود الاحتفال الرمزي، لتشكّل فضاءً سياسياً ودستورياً غنياً بالدلالات، وفرصة لإعادة تقويم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين المشروعية التاريخية والحكامة المعاصرة. وفي زمن يعيد فيه العالم ترتيب موازين القوة والشرعية، تبرز الملكية المغربية كحالة فريدة في العالم العربي، استطاعت أن تحوّل البيعة من فعل رمزي إلى عقد تجديد سياسي مستمر، وأن تتجاوز منطق “المقدس الساكن” إلى “الشرعية الفاعلة”.

في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش (30 يوليوز 2025)، صاغ جلالة الملك محمد السادس خريطة طريق تعكس انتقال الدولة من موقع الحماية إلى موقع الفعالية، ومن شرعية النسب إلى شرعية الإنجاز والإنصاف، داعياً إلى مغرب أكثر وحدة، وعدالة، وتماسكًا.

أولاً: الملكية المغربية… هندسة شرعية متعددة الأبعاد

لم تعد الملكية في المغرب مجرد نظام للحكم، بل أصبحت مؤسسة حيوية لإنتاج التوازن الاستراتيجي. إنها تجمع بين أربع شرعيات متداخلة:

1. الشرعية التاريخية المستمدة من مؤسسة البيعة وعِمقها الحضاري والديني.

2. الشرعية الدستورية من خلال الوثيقة التعاقدية لسنة 2011.

3. الشرعية الإنجازية عبر أوراش كبرى في التنمية البشرية والبنيات التحتية.

4. الشرعية الرمزية–الوطنية التي توحد الأمة حول رموزها العليا.

 

وفي هذا السياق، تُعد البيعة – التي جُددت مؤسساتياً خلال عيد العرش الأخير – تجسيدًا لتجديد الثقة الشعبية في المؤسسة الملكية، لا كطقس فولكلوري، بل كركيزة للتلاحم الدستوري، ضمن تصور حي للسيادة قائم على المسؤولية المتبادلة.

ثانيًا: خطاب العرش 2025… مقاربة التواضع الواثق والإنصات الاستراتيجي

جاء خطاب العرش الأخير مُحمّلاً برسائل عميقة، حيث انتقل من لغة الإنجاز إلى لغة التقييم والتقويم. فقد أقر جلالة الملك:

> “إننا لا ننكر ما تحقق من منجزات، ولكننا نقر بوجود فوارق اجتماعية ومجالية يجب معالجتها بحزم وفعالية.”

 

بهذه العبارة، ننتقل من خطاب الانتصارات إلى خطاب الدولة الواعية بذاتها وبحدودها، ما يعكس فلسفة حكم تقوم على “التواضع الواثق” (Confident Humility) كما يُسميها الفيلسوف السياسي Michael Sandel، وهي مقاربة تسمح بتوسيع هوامش التقييم العمومي دون المساس بجوهر الاستقرار.

ثالثًا: الدولة كمنصة للمبادرة لا فقط كمرفق للضبط

تتمحور الرؤية الملكية حول تحويل الدولة من مجرد مؤسسة لضبط التوازنات إلى منصة للابتكار الاجتماعي. وهو ما يُفهم من دعوة جلالته إلى:

“سياسات تنموية تراعي العدالة المجالية.”

“أداء عمومي قائم على القرب والإنصات.”

“إدارة ناجعة قادرة على مواكبة التحولات الرقمية والمعرفية.”

ويُحيل هذا التوجه إلى ما يسميه Peter A. Hall في نظريته حول “الدولة القادرة” (capable state) التي تتجاوز الدولة الإدارية إلى الدولة القائدة، والتي تُمارس تدخلها بمنطق التأثير وليس فقط التنظيم.

رابعًا: البيعة في سياقها المعاصر… من الشرعية إلى المشاركة

لم يعد مفهوم البيعة في النسق المغربي مجرد “مبايعة عمودية” للحاكم، بل تحول – في ظل التطور الدستوري – إلى تجديد أفقي للانخراط الجماعي في المشروع الوطني. فهي اليوم:

ليست فقط تجديد ولاء فردي، بل تأكيد على وحدة الأمة في ظل قيادة موحدة.

ليست فقط تاريخية–دينية، بل دستورية–تعاقدية، تؤطرها المادة الأولى من الدستور.

ليست فقط رمزية، بل مرتبطة بالأداء والفعالية والمسؤولية السياسية.

بهذا المعنى، تتحول البيعة إلى تعاقد سياسي علني، يَربط المواطن بالملك، لا باعتباره “مالك السلطة”، بل “ضامن توازنها” وحارس مسارها المؤسساتي والإنمائي.

خامسا : من مغرب بسرعتين إلى مغرب بوجه واحد

من أبرز محاور خطاب العرش، تشخيصه الواقعي لمعضلة اللامساواة المجالية، ودعوته إلى تجاوز مغرب المدن المهيكلة ومغرب الهامش. يقول جلالة الملك:

> “لا يمكن أن يستقيم التقدم في جهة دون الأخرى، ولا أن نُحدث التوازن إذا ظل التفاوت قائماً.”

 

وهنا، تتحول الرؤية الملكية إلى مشروع وطني للعدالة المجالية، ينهل من تقاطعات الفكر التنموي الحديث (Sen, Dabla-Norris)، ويعيد الاعتبار للجهوية كرافعة لإعادة توزيع الثروة والمبادرة والمسؤولية.

– الدولة المغربية في لحظة الوعي المزدوج

المؤسسة الملكية اليوم ليست فقط رافعة للاستقرار، بل أيضًا أداة للتنبيه إلى الأعطاب البنيوية. وهي بذلك تنتقل من “التوجيه من فوق” إلى “الإنصات من تحت”، ومن “الحكم عبر الخطابات” إلى “القيادة عبر السياسات”. وهذا ما يُكسبها قوة ناعمة وشرعية متجددة.

وإذا كانت البيعة لحظة لتجديد الولاء، فهي أيضًا لحظة لتجديد المسؤولية، ليس فقط تجاه الملك، بل تجاه الوطن، المواطن، والمستقبل.

📚 ببليوغرافيا علمية مختارة

Sandel, Michael. Justice: What’s the Right Thing to Do? (Harvard University Press, 2010).

Cerny, Philip. The Competition State Today. (Policy Studies, 1997).

Peter A. Hall. The Political Power of Economic Ideas: Keynesianism across Nations. (Princeton University Press, 1989).

Amartya Sen. Development as Freedom. (Oxford, 1999).

Francis Fukuyama. Political Order and Political Decay. (Farrar, Straus and Giroux, 2014).

Faludi, Andreas. Territorial Cohesion and European Spatial Planning. (Lincoln Institute, 2007).

Stepan, Alfred & Linz, Juan. Crafting Democratic Transition. (Johns Hopkins, 1996).

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button
error: المحتوى محمي !!
Close

تم الكشف عن مانع للإعلانات

يرجى إيقاف مانع الإعلانات للاستمرار في التصفح

نلاحظ أنك تستخدم مانعاً للإعلانات. يعتمد موقعنا على عائدات الإعلانات لتقديم محتوى مجاني عالي الجودة. نشكرك على إيقاف مانع الإعلانات وإعادة تحميل الصفحة للوصول إلى المحتوى.

نشكركم على دعمكم!