الجميل في نتائج انتخابات 8 شتنبر 2021، هو أنها أعطتنا أجوبة واضحة وصريحة لا تترك أي مجال لأي تأويل أو اجتهاد.
الجواب الصريح الأول: حزب العدالة والتنمية مات شنقا بواسطة حبل القرار الشعبي نفسه الذي رفعه إلى القمة طيلة السنوات الماضية. نعمكان هناك التخطيط والتدبير والتضييق والتآمر، لكن الاقتراع الشعبي جاء بنتيجة تتجاوز كل ما كان مأمولا من تلك الوسائل تحقيقه، ساليناإذن، الشعب أيضا شارك في دفع هذا الحزب نحو الخروج نهائيا من المشهد.
الجواب الصريح الثاني: القاسم الانتخابي سيف ذو حدين، وهو بالفعل جاء بنتيجة عكسية، ولولاه لكانت حصيلة حزب العدالة والتنمية 9 مقاعد نسائية خالصة في الأقصى. المقاعد الأربعة التي أفلتها خصومه في الدوائر المحلية الـ92 كلها تيسرت له بفضل هذا القاسم الذيكان هو معارضه الوحيد، يا لسخرية القدر.
لكن مهلا، لعلنا استطبنا التفسير القائل بوجود تصويت عقابي، ألقينا به كحطب في نار تفكيرنا المشتعلة واسترحنا منها. نعم كان هناكتصويت عقابي، نعم عشرات الآلاف من الأصوات تبخرت فجأة في دوائر كان حزب المصباح يحصد فيها المقاعد جملة، لكن إلى هنا تنتهيالحدوثة، كيف اتجه هذا التصويت العقابي تحديدا نحو حليفه الحكومي؟ أليس من المنطقي والبديهي أن التصويت العقابي يتجه نحوالمعارضة؟ ألن نجد في حال أنجزنا استطلاعات علمية دقيقة أن من صوتوا بشكل عقابي ضد العدالة والتنمية اختاروا إما حزب الاستقلال أوحزب الاصالة والمعاصرة؟
شخصيا أميل إلى تفسير آخر لفهم ما حصل في اقتراع 8 شتنبر، إنها عصا الجمع بين الاقتراعين المحلي والتشريعي التي أدت إلى هذهالنتيجة. لو نظمت الانتخابات التشريعية بشكل منفصل لخسر حزب العدالة والتنمية حتما صدارة المشهد، لكنه لم يكن ليذوب كقطعة سكر فيفنجان قهوة. لقد غمرنا الاقتراع التشريعي في بحر الانتخابات المحلية، فذاب فيها وذابت معه جميع معطيات ومؤشرات الانتخاباتالتشريعية، وخرجنا فقط بنتيجة انتخابات جماعية حددت مصير البرلمان بغرفتيه، وبمنتخبين كبار تولوا حسم مصير مجلس النواب قبلمجلس المستشارين.
الجمع بين الانتخابات في يوم واحد ليس بتلك الهامشية والثانوية التي يعتقدها البعض، في المغرب نمطان مختلفان من الاقتراع، ظلامنفصلين ومتمايزين منذ الاستقلال وإلى غاية يوم الأربعاء 8 شتنبر؛ نمط محلي يقوم على إعادة إنتاج العلاقات والبنيات التقليدية، وآخرتشريعي ينطوي على رهانات وأبعاد سياسية.
ليس من الصدفة أن أكبر توافق سياسي عرفه المغرب منذ استقلاله، وتجسد منتصف التسعينيات في دستور جديد مهد لما يعرف بالتناوب،أعاد نظام الثنائية البرلمانية، ليفصل الاقتراع السياسي–التشريعي عن الاقتراع المحلي، ويباعد بين الاقتراع المباشر لمجلس النوابوالانتخاب غير المباشر لمجلس المستشارين. الثلث المعطل الذي كان الملك الراحل الحسن الثاني يحوزه في مجلس النواب كان يتأتى له عبرالانتخاب غير المباشر الذي كان يسمح له بـ“تعيين” من يريد وإبعاد من يريد.
لهذا كانت اول خطوة في التوافق بين الملكية والمعارضة هي انتخاب مجلس النواب كاملا بشكل مباشر بما يمنحها طابعا سياسيا، أيحزبيا، في مقابل احتفاظ الملكية بخزانها الاحتياطي في غرفة مستقلة (مجلس المستشارين) تنتخب كاملة بشكل غير مباشر.
هذا الاختلاف البيّن بين ما يفرزه كل من النمطين في الانتخاب، المباشر وغير المباشر، ظل قائما، رغم التغيير الذي أتى به دستور 2011،والذي سحب من مجلس المستشارين بعض الصلاحيات التي لا تمنحها الدساتير الديمقراطية للغرفة العليا من البرلمان. وقد شاهدنا كيفجاءت انتخابات 2009 المحلية بنتائج لم يكن بالإمكان تكرارها في انتخابات 2011 التشريعية، حيث فاز حزب الأصالة والمعاصرة بالأولىباكتساح كبير بينما فشل في الفوز بالثانية.
قد يقول قائل إن السياق الذي نظمت فيه استحقاقات 2009 و2011 مختلف ولا يسمح بالمقارنة؛ طيب ماذا عن انتخابات 2015 المحليةونظيرتها التشريعية التي جرت في 2016؟ ألم يفز حزب الأصالة والمعاصرة بشكل كاسح في الأولى بينما حصل حزب العدالة والتنمية علىنتائج متواضعة إحصائيا، رغم فوزه في المدن الكبرى؟ ألم تكتسح أحزاب الدولة انتخابات مجلس المستشارين التي تتم بشكل غير مباشر؟
الذي حصل اليوم في اقتراع 8 شتنبر، هو أن عوامل كثيرة اجتمعت لتجعل مكونات الانتخابات المحلية والنمط غير المباشر، تتحكم في نتائجالانتخابات التشريعية. كيف؟
أولا كانت هناك حالة طاردة للكتلة الانتخابية المسيسة، بفعل اللا جدوى الذي أبانت عنه الولاية التشريعية السابقة من التصويت، حيثشاهدت الفئات التي قامت بتصويت سياسي كيف أن إرادتها تواجه بالعرقلة والإقبار والتجميد، وحتى الحزب الذي اختارته ليعبر عن إرادتهاأبان عن ضعف وعجز كبيرين في هذه المهمة، بالتالي أجزم ان طيفا واسعا ممن التحقوا بموكب التصويت تحت إغراء المشاركة في تشكيلالمشهد السياسي والتأثير في القرار، قد امتنعوا عن المشاركة في انتخابات 8 شتنبر.
ثانيا، جرى حسم جزء كبير من المعركة قبل يوم الاقتراع، من خلال عملية الاستقطاب المحموم التي تابعناها جميعا للمنتخبين المحليين، أو مايصطلح عليه بالكائنات الانتخابية والأعيان و“مالين الشكارة” وحرفيي وسماسرة الانتخابات، بمن فيهم أولئك الذين كانوا في السابقيشتغلون لحساب حزب العدالة والتنمية. هذا الأخير وجد نفسه عاجزا تماما عن تغطية المجالات القروية، في الوقت الذي كان قد أصبح فيهعام 2016 يطرق أبواب البادية المغربية بقوة مهددا المجال الحيوي التاريخي للمنظومة المخزنية كما شخصها ريمي لوفو وقنوات التنخيب كمارسمها واتربوري…
ثالثا، الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية، أي التجمع الوطني للأحرار، هو نفسه الذي تصدر عدد الترشيحات في الانتخاباتالجماعية، بتقديمه اكثر من 25 ألف ترشيح، في مقابل أقل من 9 آلاف ترشيح لحزب العدالة والتنمية. هذا الفرق الكبير سوف نجد مخرجاتهوقد استفحلت أكثر في نتيجة الانتخابات الجماعية، حيث فاز التجمع الوطني للأحرار بقرابة 10 آلاف مقعد، بفارق كبير عن حزب الأصالةوالمعاصرة الذي حل ثانيا بحوالي 6 آلاف مقعد، بينما تذيل حزب العدالة والتنمية الترتيب ب777 مقعد.
رابعا، قد يقول قائل إن الفرق بين مقاعد كل من حزبي الاحرار والبيجيدي في الانتخابات الجماعية لا يتناسب مع الفرق في نسبة الترشيح. هذا صحيح، فالمصباح رشح تقريبا ما يعادل ثلث عدد مرشحي الحمامة، لكنه حصل على أقل من عُشر عدد المقاعد التي حصدها التجمعالوطني للأحرار. هنا يكمن التفسير في الخصائص المعروفة لهذا النوع من الانتخابات، حيث لا يكفي أن تقوم بتقديم المرشحين كي تفوز، بليبقى السؤال الأكبر هو توعية المرشحين، ولا داعي لنشرح أين يوجد المرشحون الأعيان و“مالين الشكارة“، ففي هذه الانتخابات لا ينفع رجالونساء التعليم والمرشحون البسطاء او المتوسطون…
خامسا، ما علاقة كل هذا بالانتخابات التشريعية؟ إذا فهمنا ما جرى في الانتخابات الجماعية والجهوية، من تعبئة خاصة واستثنائية ركّزتالكائنات الانتخابية في معسكر واحد، وحرمت في المقابل الحزب المراد تقزيمه من أية إمكانية للاستقطاب والترشيح من خارج قواعدهوأعضائه، لننظر إلى الصورة داخل المعزل يوم 8 شتنبر: المغربي الذي توجه إلى مكتب الاقتراع في ذلك اليوم هو في العموم ناخب غيرمسيّس (وقروي بالأساس)، للأسباب التي وردت أعلاه، يعني أن حافزه ودافعه الأول هو التصويت لشيخ القبيلة او كبير الدوار او الحاج مولالأراضي أو بوعزة الذي يملك المصانع والشاحنات والحافلات وبالتالي القدرة على التشغيل وحل الضائقة وتمويل خيمة العزاء وتوفير كبشالعيد…
لا أقول إن جميع او أغلب من صوت قد تلقى مقابلا، بل أتحدث عن الدافع والحافز، فأن يكون ابن قبيلتك أو أحد أعيانها في مواجهة خصمما يدفعك الى التصويت له بصرف النظر عن استفادتك المباشرة. وفي لحظة اختلائه بنفسه في المعزل، هناك قرار واحد في ذهن الناخب،التصويت لرمز “بوبريص” الذي عبأه من أجله الكائن الانتخابي، وسيضع علامة فوقه أربع مرات. فكرة التصويت لهذا المرشح محليا ولذلكالحزب تشريعيا نخبوية ومعقدة حد العبثية.
سادسا، هذا الكائن الانتخابي لم يدخل المعركة هذه المرة معزولا عن الرهان السياسي، بل تم استقطابه وتوجيهه ومنحه التزكية في سياقهندسة وتخطيط محكمين. شاهدنا بالعين المجردة قبل فترة الترشيحات عملية الترحال و“الميركاتو” الصيفي الملتهب الذي شمل هذا النوع منالكائنات. أي أن تصويت الناخب وهو داخل المعزل لنفس الرمز في كل من الاستحقاقين الجماعي والتشريعي ليس مجرد صدفة، بل إناستقطاب وتزكية عدد كبير من الاعيان تم عن طريق الصفقة: منحك الضوء الأخضر والتغطية السياسية لتقوم بحملتك كما تشاء، مقابلتوجيه كتلتك الناخبة (بضع مئات أو آلاف) نحو التصويت أيضا في الانتخابات التشريعية لرمز “بوبريص“. يعني خدم معانا آ الشريف،ساهم في المقعد التشريعي كي تحصل على الدعم في معركة رئاسة الجماعة.
النتيجة: مجلس لنواب انتخب هذه المرة (عمليا)، وهي ربما الأولى في تاريخ المغرب المستقل، عن طريق الاقتراع غير المباشر والناخبينالكبار. نعم، قبل أن يفوز الاعيان ومالين الشكارة بمقعدهم الجماعي الذي يخول لهم أن يصبحوا ناخبين كبار في انتخابات مجلسالمستشارين المقبلة، قاموا بانتخاب أعضاء مجلس النواب، وهنا أصبحنا أمام برلمان بغرفتين منتخبتين فعليا وعمليا بالاقتراع غير المباشروبواسطة الناخبين الكبار، في الوقت الذي جعلنا فيه دستور 2011 نحلم بتطوير النظام الانتخابي بشكل يجعل الانتخابات التشريعية تبدوكما لو أصبحت تصويتا مباشرا على رئيس الحكومة (وهو ما جرى بالفعل في انتخابات 2016).
بالتالي يجوز لنا أن نتساءل، هل انتخبنا بالفعل مجلس النواب؟ أم إننا فوضنا هذه العملية (التدبير المفوض) للمنظومة الانتخابية التييفترض فيها أن تفرز مجلس المستشارين؟ ألم يخرج مجلس النواب عمليا وفعليا من رحم مجلس المستشارين؟