“جنازة ضمائرنا” بقلم محمد عبد الله الكرناوي
والتقينا بعد فراق طويل، كانت الأم تائهة في دنيا الناس صغير في ظهرها وبنتان في سن المراهقة قد غطى جمالهن كنف الفقر والحاجة، تحاول أيديهن التشبث بقطعتي قماش بالكاد تستران بعضا من شعرهن حياء،
بكت الأم واشتكت من وقاحة الإدارة بموظفتها التي أغلقت الباب في وجها ووجه صغارها حتى تكمل مدغ علكتها وتسترسل قهقهة في نكتة زميلها ، تتوسل تسجيلا في برامج الدولة الاجتماعية طمعا في دراهم تعيلها على يتم الصغار، فبالكاد نقود تنظيف بعض المقاهي تكفي لأسبوع من مجموع شهر طويل يتمناه الفقراء قصيرا
تحكي أن إفطار ليلة قدرهم كان 3 دراهم زبدة وقليل شاي، تلك الليلة كان الأتقياء يرمون بقايا الكسكس واللحم خلف المساجد، ننظر لبعضنا كما كنا ننظر من قبل وقد تفطرت قلوبنا وسقط الدمع عكس مجراه في دواخلنا، طمعا في أجر المسح على رأس اليتيم يمرر صديقي يده على رأس الصبي وقد التصق بضهر أمه بلا حراك، بصوت مرعوب يهمس لي رأسه قطعة ثلج، فارق الحياة قبل أن ندرج اسمه في موقع الدعم الاجتماعي، فضل الطيران في جنة الله على البرامج الكثيرة التي ما استطاعت توفير حليب في ثدي أمه، جاء كبير الوزراء بجلبابه الغالي وحاشيته، سيارات تحمل شارات على زجاج السيارة تبرز صفة الطبقية والتعالي بطرق متحضرة،
كانت جنازة الصبي عظيمة حضرها الفقير والغني، المثقف والأمي، أستاذ الجامعة وأصدقائي قدماء الرفقة، تكبدت عناء المبادرة وإسكات الجميع بتلاوينهم ووسعت دائرة الجمع حول قبر الصغير وناديت في الناس هذا صديقي يحكي لكم قصة الأم التي لم تكفها لقمة الحلال وأرسلت طفلها عصفورا لله يشكي جميعنا لله
لم تكن حلقية في جامعة ولا موعظة مقابر، كانت شيئا لا اسم له، استرسل صديقي كما كان يسترسل قديما، بكى الجميع بكاء مريرا ومرغوا وجوههم في التراب، أما أصحاب الجلاليب البيضاء المطرزة فلم يصلهم صوت صديقي كأن في آذانهم وقرا، كأنهم ما عادوا يسمعون سوى أصوات تهتف أنتم آلهتنا الأعلى، سوى أن وجوههم كان تزداد سوادا كلما بكى الناس…،
فتحت عيناي ووجدت ضوء الصباح يتسلل عبر نوافذ البيت، أدركت أنه مجرد حلم نوم أو رؤيا، سمها كما أحببت، ستندثر تفاصيلها من عقلي في طريقي للعمل صباحا، بعد أن أرى رجالا يتشاجرون على رزق الميخالة ومن يفوز بتفتيش حاويات أزبال حي الموظفين… عيد قريب مبارك للجميع.