شذرات اقتصادية… عائشة العلوي تكتب التنمية المحلية بأزيلال: من قلب الهامش يولد الأمل

عائشة العلوي، أستاذة جامعية وخبيرة اقتصادية
في عمق جبال الأطلس، وتحديدا في إقليم أزيلال، تنبض حياة تختزل قصصا من الصمود والإبداع. طبيعة بكر تتداخل مع إرادة شباب ونساء يصنعون المستقبل رغم وعورة التضاريس وقسوة الظروف. خلال جولات ميدانية شملت عدة دواوير ومراكز قروية، اكتشفت أن التنمية هنا ليست شعاراً، بل معركة يومية تُخاض بإمكانات محدودة وهمم لا تعرف الكلل.
تزخر مناطق أزيلال بموارد طبيعية متنوعة، من مناظر جبلية خلابة، ومياه عذبة، ومنتجات فلاحية محلية، إلى تراث ثقافي غني، كلها تؤهّل الإقليم ليكون فضاءً واعدًا للتنمية الجبلية والقروية. غير أن هذه المؤهلات ما تزال في كثير من الأحيان غير مستغلة بالشكل المطلوب، إذ تظل تحتاج إلى استراتيجيات ذكية لتحويلها إلى محركات اقتصادية حقيقية للتغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية.
لافت في هذه المنطقة ذلك التلاحم بين الطموح الفردي والعمل الجماعي. فتجد نساءً يقُدنَ تعاونيات ومشاريع صغرى ناجحة، وشبابًا يبتكرون مشاريع في السياحة البيئية والصناعة التقليدية وقطاع الخدمات، رغم شح الموارد. كما تتحول التعاونيات والجمعيات المحلية إلى ورشات تنموية حقيقية، لا تقتصر على تقديم الخدمات، بل تُنشئ شراكات ذكية مع القطاعين العام والخاص. وهناك شبابٌ جادّون يحملون مشاعل التغيير عبر مقاولات صغيرة وذاتية، يسعون إلى تحسين دخلهم، ويعملون على تعزيز اندماجهم الاجتماعي واستقلالهم الاقتصادي.
في قلب هذه الديناميكية، تبرز اللغة الأمازيغية كجسر للتواصل وعنصر هوياتي فاعل. كم تمنيت إتقانها بشكل أفضل لتحويل النظريات الاقتصادية إلى مفاهيم عملية تلامس واقع السكان. خلال زياراتي، لمستُ كيف تتحول الكلمات الأمازيغية إلى أدوات تمكين، خاصة عندما تترجم أفكاراً تنموية إلى مشاريع ملموسة. اللغة هنا ليست مجرد وسيلة تواصل، بل عماد تطور ورافعة ثقافية واجتماعية واقتصادية. وجدت في كلمات السكان الأمازيغ، رجالاً ونساءً، الكثير من التشجيع والتقدير، خاصة وأنني أعرف هذه المناطق وتقاليدها وثقافتها عن قرب، منذ أكثر من عشرين سنة.
في محطة مؤثرة، التقيت بعدد من طلبتي الذين درستهم سابقًا، وكنت قد نهجت معهم تمييزًا إيجابيًا، نابعًا من قناعة بأن الإنصاف يبدأ من إدراك عمق الفجوة الجغرافية والاقتصادية التي يواجهونها. خلال هذا اللقاء، شعرت بارتياح داخلي، لأني أدركت أني كنت عادلة حينها. أحدهم أخبرني أنه كان يقطع 12 كيلومترا يوميًا للوصول إلى المدرسة. يدير اليوم مشروعاً سياحياً صغيراً في قريته “البزو”. يحكي بحماس عن تحديات البنية التحتية والعزلة الرقمية التي تعيق نمو عمله.
هنا تكمن المفارقة: مناطق تقدم أجمل ما في المغرب من مناظر وتقاليد، لكنها تعاني من إهمال بنيوي. الطرق غير المعبدة، غياب التشوير السياحي، وضعف الربط الرقمي، كلها عوامل تدفع بالشباب إلى الهجرة، مما يفقد المنطقة دماءها النابضة ويُغذي هوامش المدن؛ لذا فإن التمييز الإيجابي ينبغي أن يُترجم في شكل استثمارات موجهة، وبرامج تنموية تراعي الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية لهذه المناطق. فالإنصاف الترابي ليس ترفًا، بل شرط أساسي للعدالة الاجتماعية والتنمية العادلة والمستدامة.
خلال حواراتي مع سياح أجانب التقيتُهم وهم في طريقهم إلى قلب الجبل عبر الطريق المؤدية إلى واوزغت، أعربوا جميعاً عن إعجابهم بجمال الطبيعة وسحرها في المنطقة، لكنهم أشاروا إلى بعض المشاكل مثل نقص اللوحات الإرشادية، وعدم توفر مسارات آمنة للتنقل داخل الجبل، إضافةً إلى عدم وجود أماكن مُجهزة للمبيت في المناطق المفتوحة، خاصةً أن الكثير من السياح الشباب يُفضلون قضاء الليل في الخلاء، ما يستلزم توفير مرافق صحية وخدمات الاستحمام. بلا شك، تحسين هذه الجوانب سيرفع من جودة السياحة الجبلية ويجعلها مصدراً مهماً للدخل المحلي. كما لاحظت أن المنطقة تضم مواقع أثرية وتكوينات طبيعية فريدة تستحق التسليط عليها والاهتمام بها، لتصبح علامة مميزة تجذب الزوار من كل مكان.
كما يعتمد الاقتصاد المحلي في هذه المناطق على أنشطة صغيرة غير مهيكلة، تتراوح بين إنتاج العسل وزيت الزيتون وتربية الماشية والحرف اليدوية. وهذه القطاعات تحتاج إلى دعم فعّال عبر التكوين المهني، والتمويل التشاركي، وفتح أسواق جديدة. فالدعم الحقيقي لا يقتصر على منح الإعانات، بل يجب أن يشمل الاستثمار في تنمية الإنسان والمجتمع. لذا يمكن اعتماد سياسات التمييز الإيجابي التي توفر فرص تمويلية متكافئة، إلى جانب الدعم المادي واللامادي. مثل هذه السياسات من شأنها تحفيز السكان على الاستقرار وتطوير مشاريعهم بشكل مستدام.
ما تشهده أزيلال ليس حالة معزولة، بل يتقاطع مع تحديات المناطق الجبلية في شمال المغرب. من جبال الأطلس إلى جبال الريف، تبرز نفس الإشكالات: تنمية غير متوازنة، هجرة شبابية، وموارد غير مستغلة. لكن التجارب الناجحة في بعض المناطق تثبت أن الحلول ممكنة عندما تجتمع الإرادة المحلية مع سياسات عمومية مرنة.
أزيلال وغيرها من المناطق الجبلية ليست مجرد جغرافيا، بل خزانات للثقافة والطبيعة. تنميتها ليست خياراً، بل استثماراً في مستقبل المغرب ككل. عندما نضمن للجبال حقها في التنمية، نكون قد وضعنا حجر الأساس للدولة الاجتماعية؛ من قلب الهامش يولد الأمل.