مختبر الأبحاث التطبيقية بكلية الآداب ببني ملال ينظم يومًا دراسيًا تذكاريًا حول محمد خير الدين

يستعد مختبر الأبحاث التطبيقية في اللغات والفنون والتمثلات الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، لتنظيم يوم دراسي تذكاري يحمل عنوان: «Journée commémorative : Mohammed Khair-Eddine : Écriture de soi, territoire et imaginaire rebelles»، أي «اليوم التذكاري: محمد خير الدين – كتابة الذات، والجغرافيا، والمخيال المتمرّد»، وذلك يوم 13 دجنبر 2025 ابتداءً من العاشرة صباحًا بقاعة المؤتمرات بكلية الآداب.
وسيُدير الجلسة الباحث والاستاذ الجامعي منير أوسيكوم، بمشاركة أسماء أكاديمية بارزة مثل Bernadette Rey Mimoso-Ruiz التي ستقارب “اليوميات الأخيرة” للكاتب، ومحمد كوندي الذي سيقرأ مسار خير الدين بوصفه رحلة بحث عن الذات، وعبد الله الحوالي الذي سيتوقف عند الترحال والنَّفَس الغنائي في نصوصه، ثم هشام صمدي الذي سيستكشف “الجيو ــ شعرية” سوس في كتاباته، قبل فتح باب النقاش العام مع الحضور. هذا البرنامج العلمي يؤكد أن تجربة محمد خير الدين ما تزال قادرة على تغذية البحث الجامعي وإثارة الأسئلة حول علاقة الأدب بالذات واللغة والمجال.
وبهذا يكون محمد خير الدين حاضراً ذاخل المشهد الثقافي، فكلما ابتعد زمن رحيله، عاد اسمه بقوة في الفضاء الأكاديمي والنقدي. الجامعات المغربية والفرنسية، ما تزال تنظم أيامًا دراسية وملتقيات مخصصة لقراءة أعماله وإعادة طرح أسئلته، لأن هذا الكاتب الأمازيغي الاصيل القادم من تافراوت لم يكن مجرد اسم في تاريخ الأدب، بل مشروعًا لغويًا وفكريًا كاملاً.
ويبرر هذا الحضور المتجدد العودة إلى أعماله واحدةً واحدة، لفهم كيف انتقل من كتابة الصدمة في «أكادير» إلى حكمة الوداع في «كان يا ما كان زوجان سعيدان»، مرورًا بالكتب الشعرية والاحتجاجية والنقدية التي شكّلت نسيج تجربته.
وتجدر الإشارة أن محمد خير الدين وُلد سنة 1941 في تافراوت بسوس، في وسط أمازيغي جبلي يعتمد على الحكاية والميثولوجيا المحلية في صون الذاكرة الجماعية. عاش جزءًا من شبابه في أكادير، وهناك سيهزه زلزال 1960 الذي سيحوِّله لاحقًا إلى “مادة أولى” لروايته الأولى. اشتغل في المطابع والصحافة، وشارك في حركة “الاحتراق” الأدبية، قبل أن يغادر إلى فرنسا منتصف الستينيات هربًا من التضييق السياسي، في منفى سيصبح هو الآخر موضوعًا للكتابة.
وكان يردد في أحد حواراته وهو يستعيد زلزال أكادير: «J’écris pour survivre aux ruines»؛ أي «أكتب كي أنجو من تحت الأنقاض»، وهي جملة تلخّص كيف تحوّلت الكارثة الشخصية والجماعية إلى طاقة كتابة لا تهدأ. هذا المسار الشخصي ينعكس مباشرة في كتبه؛ فكل عمل تقريبًا يمكن قراءته كسيرة ذاتية متخفية: سيرته مع المكان، أو مع اللغة، أو مع الجسد والسلطة.
وتُعد رواية «Agadir»، الصادرة عن منشورات سويي/Seuil سنة 1967، حجر الأساس في مشروعه الروائي. هذا النص ليس فقط استعادة لزلزال المدينة، بل محاولة لتحويل الكارثة إلى شكل سردي جديد؛ إذ يكتب خير الدين رواية مفككة تعتمد الشظايا والمقاطع والتناوب بين السرد والتخييل الشعري، في ما يشبه محاكاة لغوية لاهتزاز الأرض نفسها.
البطل موظف مكلف بملفات المنكوبين، لكن ما يهم الكاتب ليس الشخصية بقدر ما يهمه تحويل الحادثة إلى مختبر للغة وللنقد الاجتماعي والسياسي، حيث تُعرَّى الدولة، والبيروقراطية، وانكسار الناس في الهامش. دراسات حديثة في السرديات ترى في «أكادير» مثالًا على كيف يصبح “الخراب” محركًا للشكل، وكيف تتحول الرواية إلى وسيلة لـ“احتواء الكارثة” عبر الكتابة.
وبعد «أكادير» مباشرة، أصدر خير الدين كتاب «Corps négatif suivi de Histoire d’un Bon Dieu» عن دار سويي سنة 1968؛ وهو عمل مركّب يجمع نصّين في مجلد واحد: “الجسد السلبي” و“حكاية إله صالح”. هنا ينتقل من الكارثة الجماعية إلى تفكيك الجسد الفردي وعلاقته بالسلطة واللغة.
ويكشف عنوان “Corps négatif” انشغاله بجسد مقموع، مهمَّش، متمرد في الآن نفسه، بينما «Histoire d’un Bon Dieu» تسخر من الصور الجاهزة عن المقدس، وتعيد تشكيل الإله في صورة قريبة من الإنسان، مكسورة، قلقة. هذا الكتاب يؤسس لخطّ أساسي في كتابته: المزج بين التجريب الشكلي والفكر النقدي الراديكالي، في لغة فرنسية مشحونة بالعنف واللعب.
وفي سنة 1969، سيصدر ديوانه الشعري «Soleil arachnide» عن سويي، وهو مجموعة قصائد تبلور ما سيسميه النقاد لاحقًا “الكتابة البركانية” لدى خير الدين. القصائد هنا ليست غنائية بالمعنى الكلاسيكي، بل اندفاعات لغوية حادة، تتشابك فيها صور الشمس والعنكبوت والحركة اللولبية للجمل في فضاء النص. هذا العمل يرسخ صورته كـ“شاعر قبل أن يكون روائيًا”، ويكشف أن نثره نفسه متشرب بجهاز شعري كثيف.
وفي سنة 1970، نشر كتابًا أساسيًا آخر هو «Moi l’aigre»، أيضًا عن سويي؛ وهو نص يصعب تصنيفه بدقة: رواية؟ سيرة؟ بيان غضب؟ النقاد يعتبرونه استمرارًا لثورة «أكادير»، لكن على مستوى أشد فرديةً وتطرفًا. في هذا الكتاب، تتحول “الأنا” إلى ساحة معركة، وتختلط الصور الجسدية العنيفة بالهذيان اللغوي.
ويقدم موقع نقدي فرنسي هذا العمل بوصفه ثورة شكلية في انسجام تام مع ثورة الكاتب نفسه، ويصف “الأيغرة” فيه بأنها ليست حقدًا جافًا، بل “أيغرة سخية” تنضح بصور قوية، من أشهرها جملة يوردها النقاد كثيرًا: «Dans mon palais ne circulent que des seins frais arrachés à l’arbre de science»، وهي صورة تكثف جرأته على تفجير التابوهات الجسدية والمعرفية معًا.
وفي سنة 1973، يعود خير الدين إلى الرواية مع «Le Déterreur»، حيث نصادف شخصية “منبش القبور” الذي يعيش في هامش المجتمع ويصطدم بفقر مدقع وعنف بنيوي. يحوّل الكاتب فعل “نبش القبر” إلى استعارة كبرى لنبش الذاكرة والتاريخ المسكوت عنه؛ فالبطل لا يفتح الأرض فقط، بل يفتح طبقات من القهر الاجتماعي والفساد السياسي.
ويعتمد نصّ “المنبش” يعتمد لغة متكسرة، سريعة، مفعمة بالصور الصادمة، حتى إن بعض القراءات النقدية وصفته بأنه “يحوّل الفرنسية إلى معول”، في إشارة إلى طريقة استخدامه للجملة كسلاح يهدم الكليشيهات.
وفي منتصف السبعينيات، ينفتح خير الدين أكثر على نصوص تجمع بين الشعر والنثر والتأمل، فنجد كتاب «Ce Maroc !» الذي صدر عن سويي سنة 1975، وهو مجموعة من النصوص الشعرية القصيرة مرفقة برسوم بالحبر الصيني للفنانة Mechtilt.
وفي هذا الكتاب، يكتب عن المغرب كمساحة متوترة بين الجمال والقمع، بين التاريخ الرسمي والذاكرة الشعبية، بين الريف والمدينة. نصوص «Ce Maroc !» تشبه يوميات شاعر غاضب يطوف البلاد بعين قاسية وحنونة في آن واحد، ويحوّل تفاصيل المكان إلى استعارات سياسية وثقافية.
وخلال الفترة نفسها تقريبًا، أصدر نصوصًا أخرى أقل شهرة لكنها مهمة في فهم مشروعه، مثل «Une odeur de mantèque» في منتصف السبعينيات، وهو كتاب يتخذ من الرائحة والذاكرة الحسية مدخلًا للحديث عن الطفولة والقرية والعائلة، ويمتد في تأمله إلى أسئلة المنفى والانتماء. هذه المرحلة تتسم بتنامي حضور السيرة الذاتية المتخفية داخل نصوصه، مع استمرار التمرد اللغوي الذي يرفض أي بناء كلاسيكي مستقر.
ونصل بعد ذلك إلى عمل مفصلي في مساره هو «Une vie, un rêve, un peuple, toujours errants»، الذي ينتمي إلى أواخر السبعينيات ونشرته أيضًا دار سويي، ويُصنَّف عادة كرواية/سيرة. هنا يذهب خير الدين أبعد في دمج الحياة بالنص؛ فالكتاب يتتبع مسارات الذات المنفية، ويحوّل تجربة الهجرة والعودة والألم إلى كتابة مفتوحة على التأمل الفلسفي والاعتراف الشخصي.
وفي أحد المقاطع الشهيرة من هذا النص، تَرِد العبارة: «Khaïr-Eddine n’a pas de patrie: il n’est lui-même que ce bruit de vent et de langue…»؛ أي “لا وطن لخير الدين؛ إنه ليس إلا هذا الضجيج من الريح واللغة”، وهي جملة تكشف إلى أي حد يرى نفسه كائنًا لغويًا قبل أن يكون مواطنًا في جغرافيا محددة.
ومن جهة الشعر، لا يمكن إغفال ديوان «Résurrection des fleurs sauvages» الذي صدر في طبعة مغربية عن منشورات ستوكي بالرباط سنة 1981، ثم أُعيد نشره لاحقًا في طبعة فرنسية. في هذا العمل، تلتقي الطبيعة الأمازيغية (الأعشاب، الصخور، الزهور البرية) بمشهد داخلي ممزق، وتتحول “قيامة الزهور” إلى استعارة عن عودة القرى واللغات والأصوات المقموعة إلى السطح. هذا الديوان يرسّخ صورة خير الدين كشاعر يكتب عن الهامش الطبيعي واللغوي، مقابل المراكز السياسية والثقافية.
وبعد عودته إلى المغرب أواخر السبعينيات، واصل خير الدين إنتاجه الروائي والشعري، لكن بنبرة تجمع بين الاستمرار والتجاوز. من أهم أعمال هذه المرحلة رواية «Légende et Vie d’Agoun’chich» التي ظهرت سنة 1984 عن سويي، وتُعد أول رواية كتبها بعد عودته إلى بلده.
ويحكي هذا النص الغارق في المخيال الأسطوري لسوس؛ عن “أگونشيش” كشخصية شبه أسطورية تتحول في الرواية إلى مرآة للقبيلة والجبال وذاكرة المقاومة. يعتمد الكاتب هنا على حكايات الأجداد والأساطير المحلية، لكن بلغة فرنسية حديثة جدًا، فتولد مفارقة قوية بين “المادة الشعبية” و“الوعاء الحديث” الذي يحتويها.
وإلى جانب الرواية والشعر، كتب خير الدين نصوصًا حوارية ونقدية مهمة، مثل «Le temps des refus. Entretiens 1966–1995»، حيث تُجمع سلسلة من حواراته التي تضيء رؤيته للأدب والسياسة والمجتمع، وكذلك نصوص نقدية عن كتّاب آخرين مثل “Kateb, Driss & compagnie”، ودراسات قصيرة عن جويس وفوكنر وتشي غيفارا وغيرها.
وفي هذه الحوارات كثيرًا ما كان يردد: «Écrire, c’est résister autrement»؛ أي «أن تكتب يعني أن تقاوم بطريقة أخرى»، في إشارة إلى أن المعركة الحقيقية بالنسبة إليه ليست فقط في الشارع أو الحزب، بل أيضًا في الصفحة، داخل بنية الجملة ذاتها.
وفي سنواته الأخيرة، يتجه أسلوبه نحو نوع من الهدوء المتوتر، ويتجلى ذلك في روايته الشهيرة «Il était une fois un vieux couple heureux»، التي صدرت بعد وفاته عن منشورات سويي سنة 2002. هذا النص يُعتبر بمثابة “وصية أدبية”؛ إذ يحكي عن زوجين أمازيغيين مسنّين يعيشان في قرية جبلية، في انسجام مع إيقاع الفصول والطبيعة والعمل اليومي.
ومن خلال بساطة الحكاية، يقدّم خير الدين تأملاً عميقًا في الحكمة الشعبية، وفي مقاومة القرى للزمن الحديث، وفي معنى أن تعيش حياة صغيرة لكنها مليئة بالمعنى. النقاد لاحظوا أن هذا الكتاب يبدو أقل غضبًا من «أكادير» و«Moi l’aigre»، لكنه يحتفظ بالتوتر ذاته بين اللغة والواقع، مع تحول الغضب إلى نوع من الصفاء الشرس.
وإلى جانب هذه الأعمال المركزية، هناك كتاب «Mémorial»، وهو ديوان شعري متأخر صدر سنة 1991 عن دار Le Cherche Midi، يُنظر إليه كخلاصة لمسار شعري طويل، يجمع بين نبرة التأمل في الموت والتشبث بالحياة عبر الكلمات.
وكما أن إعادة نشر أعماله في “كوفر” يضم سبعة من أهم رواياته — «أكادير»، «Moi l’aigre»، «Le Déterreur»، «Une odeur de mantèque»، «Une vie, un rêve, un peuple toujours errants»، «Légende et vie d’Agoun’chich»، و«Il était une fois un vieux couple heureux» — يؤكد أن هذه النصوص تُعتبر اليوم نواة مشروعه الروائي في نظر المؤسسات الثقافية المغربية.
وبهذا المسار المتشعب، من «أكادير» إلى “قيامة الزهور البرية” و“أغونشيش” و“الزوجين السعيدين”، يمكن القول إن خير الدين بنى مكتبة كاملة داخل كاتب واحد. كتبه ليست متفرقة في موضوعاتها كما يبدو لأول وهلة؛ فهي تدور كلها حول ثلاثية واضحة: الصدمة (زلزال، منفى، قمع)، واللغة بوصفها أداة تفجير وتحرر، ثم الهوية الأمازيغية التي تتنفس داخل فرنسية منحوتة من تضاريس الجبل.
هذا ولذلك ظل النقاد يعودون إليه بوصفه “الطفل الرهيب للأدب المغاربي بالفرنسية”، وكاتبًا وحيدًا في نوعه، لا يمكن استبداله ولا اختزاله في تصنيف جاهز، وما هذا اليوم التذكاري ببني ملال إلا حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الاعتراف بقيمة هذا “الطائر الأزرق” الذي اختار أن يحلّق بلغته فوق كل الحدود.



